أكثر الأمور بساطة في الحياة هي الأشد تعقيدا، لكنها تحتاج منا إلى تجرد من الذات والملذات. ولكي نصل إلى تلك المعارف الموغلة في البساطة، علينا أن نخلع ذواتنا المتكلفة وأن نصغي لنداءات الروح وسجايا الفطرة.
علينا أن نخرج من ربقة المألوف وسطوة المكرر والمعاد.
ولهذا كان للتأمل منزلة عظيمة في كل الأديان وكافة الشرائع، كما اهتمت بالتدبر جميع الثقافات وأغلب الحضارات.
إذ أن شئون الحياة تشغل العقل بسفاسف الأمور، وتصرف القلب عن التفكير وإمعان النظر. لهذا، لم يتعرف نيوتن على الجاذبية حين سقط من فوق فراشه، أو عندما انزلقت قدمه في حفرة بالجوار، بل كان عليه أن يفتح مسام فكره الحي وهو يتفيأ ظلال شجرة تفاح بعيدة.
وكان على بوذا أن يخرج من ملكوت أبيه، وأن يتخلى طائعا عن قصوره وحاجته إلى النساء، ليتفرغ لعبادة الإله الذي خلق كل شيء وقدره. فالبيوت لا تخنق ثعابين الهواء التي تتجول في الشوارع والأزقة والوديان والجبال فحسب، لكنها تمنع الله من زيارة قلوبنا أيضا.
وكما تقول الحكمة الآسيوية، فالله لا يوجد إلا في الأماكن التي نسمح له بزيارتها ولهذا، لا تتسع لعظمته أرض ولا سماوات، بينما يتسع له قلب عبد مؤمن.
كان على العزير أن يخرج بحماره ذات قيظ، ليسقي بستانه اليابس ويجمع بعض التين والعنب، ليعود بعدها بمئة عام كاملة ليحدث الناس عن الإله الذي أحيا الحمار والقفار بعد موت وجدب، ليجتمع حوله فرقاء بني إسرائيل ليتلو عليهم التوراة التي نسيها الناس بعدما حرق بختنصر دورهم ودور عبادتهم.
وما كان فضل الرجل إلا أن تفكر في كيفية الإحياء بعد الموت، لا تفكر شاك ولا عابث، حاشاه.
وليطمئن قلب إبراهيم، أمره الله أن يذبح طيرا، وأن يوزع أشلاء غراب وديك وطاووس وحمامة على قمم جبال متباعدة، ثم ينادي في قطع اللحم المختلطة أن تعالوا بإذن الله، فتجتمع الأفخاذ إلى الصدور والرقاب، وتصفق الأجنحة التي كانت قبل قليل بلا نبض ولا حراك فوق رأس نبي الله. وما كان لآية كهذه أن تقع، لولا أن إبراهيم عليه السلام سأل ربه: “كيف تحيي الموتى؟”.
يقولون أن أحد الأثرياء في بلاد الغرب فقد كل أمواله وسنداته، فتنسك عاما كاملا لا يرفع يديه إلى السماء إلا بدعاء واحد، وهو أن يكسب اللوتاري. ولما انقضى عام كامل دون رد من السماء، خفض الرجل كفيه، وشمر ثيابه وخرج إلى دنيا الناس يلعن الدين والمتدينين، وليتمرد على إله لا يسمع لأحد ويستخف باستغاثة المستغيثين.
ونسي هذا الرجل الذي خرج من دينه ومحرابه إلى الأبد أو تناسى أنه لم يشتر يوما تذكرة لوتاري واحدة. من يدري؟ لربما كان إلهه ينتظر منه أي مبادرة ليجيب سؤله.
كان على موسى عليه السلام أن يخرج بحثا عن الخضر، وكان على محمد الأمين أن يخرج من دفء الفراش ولذة المؤانسة إلى وحشة حراء وبرده وظلمته، ليصل إلى الله كما وصل بوذا وذو الكفل وإبراهيم من قبل.
ولأن لنا في رسل الله وخاصته أسوة حسنة، فلن نصل إلى ما وصلوا إليه حتى نخرج على مألوف عاداتنا، ونتوقف عن الانخراط في أتون الحياة حتى لا نحترق بملذاتها كما احترق الناس من حولنا ونتوه ونضل كما ضلوا.
لم يعرف بوذا شيئا عن معاناة البشر ووجوب مواساتهم ولعق جراحهم والسعي في حاجاتهم إلا عندما هجر قومه سبع سنين دأبا.. ولم يعرف موسى شيئا عن لطف الله الخفي وإدارته لشئون عباده إلا بعدما رافق الخضر في رحلة مدهشة. ولم يعرف إبراهيم ولا العزير آلية البعث وكيفية النشور إلا بعدما رأوا بأعينهم كيف ينشز الله العظام ثم يكسوها لحما.
ولولا رفض خاتم الأنبياء القبول بثقافة القطيع، والخروج على دساتيرهم البالية، لما كافأه الله بنزول جبريل وضمه إليه.
نحتاج جميعا إلى الخروج من حمأة حياتنا الآسنة لنرى النور في نهاية الغرف المغلقة. فالتفكير خارج الصندوق هو الكفيل بإعادة توازننا العقائدي والحياتي والذي لوثته مستجدات الحضارات واختلاط الثقافات.
نحتاج نسمة روحانية نقية تتخلل شراييننا التي أفسدتها المادة ودنستها المصالح والأهواء والنزوات. نحتاج أن نفتح مسام أرواحنا على نفحة حرائية راقية تسمو بأرواحنا المتعبة وتلهمنا الرشد الذي فقدناه أو كدنا في عالم تداخلت فيه الأشياء.